المدير العام المدير العام
الدولة : الجنس : العمل/الترفيه : المدير العام الموقع : قطرة من بحر التاريخ الأوسمه :
عدد المساهمات : 757 تاريخ الميلاد : 09/02/1975 العمر : 49 الابراج : تاريخ التسجيل : 17/04/2011 المزاج : معتدل
| موضوع: شعيرات بيضاء على جانبي الرأس! 2017-09-16, 2:00 pm | |
| بعيون دامعة ونظرات حزينة، وقفت نبيلة أمام المرآة، تتأمل ملامحها الذابلة وبشرتها الباهتة، وقد سيطرت عليها مشاعر القلق واليأس والكآبة. راحت تتفحص وجهها الشاحب، وترصد علامات الزمن التي بدأت تزحف عليه؛ لتقضي على ما بقى من نضارة الشباب. أفزعتها رؤية شعيرات بيضاء، ظهرت في جانبي الرأس. حاولت إزاحتها بيدها، لكنها انفلتت من بين أصابعها، وبدت تحت الإضاءة أكثر بياضا ولمعانا، وكأنها تتحداها أو تسخر منها. جلست على حافة السرير، تجتر ذكرياتها، وقد أمسكت رأسها بيديها، آه.. ما أقسى أن يظهر الشيب في رأس عذراء! تساقطت العبرات من عينيها، وتنهدت بعمق، وكأنها تحمل على كتفيها تلالا من الهموم. من الآن أصبحتُ وحيدة في هذا البيت الكبير بلا أنيس ولا جليس. سامح اللهُ أمي وأبي! أضاعا شبابي، وقضيا على أحلامي بالتعالي والعناد، رغم أنني كنت طوال عمري ابنة مطيعة لهما، لم أشأ مخالفتهما في أخص أمور حياتي طلبا لرضاهما عني، وها هما قد فارقا الدنيا وتركاني وحيدة، رحمهما الله، كانا يعتقدان أن ما يفعلانه لصالحي، ولكن خانهما التقدير.
منذ سنوات مضت لم يكن يمر أسبوع دون أن يأتي إلى بيتنا من يرغب في خطبتي أنا، أو أختي التي تصغرني, كانت أمي تصر أن يكون العريس من علية القوم، يليق ببناتها. بنات الأكابر والأصول، وتردد على أسماعنا دائما في فخر حكايات عن جدها الباشا السفير، وأبيها البيك عضو البرلمان، وأخيها البكباشي القائد العسكري، وكيف كانوا يتمسكون بالأصول العريقة التي ورثتها عنهم، ونسيت أمي أن عهد الباشوات والبيكوات قد انتهى، أما أبي فكان يصر على زواج الابنة الكبرى أولا، طبقا للتقاليد. وبالطبع أغلب المتقدمين غير لائقين اجتماعيا، ولا تتوافر فيهم المواصفات والشروط التي وضعتها أمي. و يتصادف ـ أحيانا ـ أن يكون العريس مناسبا، ولكن يكون الطلب على أختي التي تفوقني جمالا، وترضى أمي عن الخاطب وتوافق عليه ويرفض أبي ويصر على زواجي أولا، فينصرف الخاطب ولا يعود لم ينتظر الزمن حتى يكف أبواي عن العناد، ويتفقا على رأي. تقدم بنا العمر، وتضاءل عدد المتقدمين لخطبتي أنا وأختي. لن أنسى ما حييت حينما حضر أحد الشباب لخطبتي ـ بعد أن سمع من يثني على خلقي وأصلي الطيب، كان البيت كله مهيأ لاستقباله، الثريات مضاءة، وآنية الزهور في المدخل، والجميع يرتدون الملابس الرسمية، فمعلوماتنا عن العريس القادم أنه مستوفٍ للشروط اللازمة لبنت الأكابر ـ كما وضعتها أمي. عندما دق جرس الباب، وفتحت الخادمة دخل الشاب يرتدي حلة فخمة، ورباط عنق أنيق، ويحمل باقة من الورد، وبصحبته أمه، سيدة ذات هيئة أرستقراطية، وبيدها علبة حلوى فاخرة، ويبدو على محياهما السرور. استقبلهما أبي وأمي بترحاب شديد، وأرسلا الخادمة تدعوني لمقابلة الضيوف. ما أن رأتني السيدة حتى عبس وجهها، وزمت شفتيها، وسلّمت عليَ في برود، ُثم سألتني عن عام تخرجي في الجامعة، وبعدها سحبت ابنها الذي لم يعرني اهتماما، واستأذنا في الانصراف؛ متعللين بأن لديهما موعدا مهما مع الطبيب.
كان واضحا أن السيدة وابنها يريدان عروسا صغيرة، أما أنا فقد بلغت الأربعين! عدت إلى حجرتي حزينة كسيرة الخاطر. الآن أصبحنا نُرفض من الخطّاب، بعد أن ظللنا لسنوات نرفض المتقدمين إلينا بحجج واهية، وتقاليد بالية. من المواقف التي لا تفارق ذاكرتي ما حدث في إحدى المرات، حينما اشتد الخلاف بين أمي وأبي، فهي تصر على قبول الخاطب المتقدم لأختي لأنه يليق بها، وأبي يصر على زواجي أولاً، لأنني الأكبر سنا، وتمسك كل منهما برأيه، ونتيجة للانفعال الشديد حدثت لأبي أزمة قلبية، وارتفع الضغط عند أمي؛ مما استدعى نقلهما إلى المستشفى، وظلا في العناية المركزة لعدة أيام، وعندما أفاقا وجداني وأختي إلى جوارهما. كانا ينظران إلينا بإشفاق، وسمعت أبي يقول لأمي: ماذا لو متنا وتركنا هاتين الفتاتين وحيدتين!؟ فترد أمي: كل القريبات والزميلات اللائي في مثل عمريهما أصبحن زوجات وأمهات. كانت دموع الحزن والندم تتساقط من عيونهما خوفا علينا، ولكن بعد فوات الأوان. توفيت أمي، ولحق بها أبي بعد فترة قصيرة، وبعد انتهاء الحداد تقدم لخطبة أختي شاب، وافقت أختي على الفور، وتم الزواج، وأنجبت طفلا، واستقرت حياتها. بقيت أنا وحدي في هذا المنزل الكبير الذي استحال أنسه إلى وحشة، أحمل لقب عانس إلى جانب لقب بنت الأكابر.انتبهت على صوت الخادمة تخبرها بأن عمتها تنتظرها في حجرة الاستقبال. ــ عمتي!! وهل عادت من أوروبا؟ ــ تقول: إنها قادمة لتوها من السفر. أسرعت نبيلة لاستقبال عمتها، وبعد السلام والعناق الحار انخرطت كلتاهما في البكاء والحديث عن الراحلين. لاحظت نبيلة وجود طفل صغير بجوار عمتها، فسألتها عنه، أجابت العمة: إنه عادل حفيدي ابن شهير. توفيت أمه وهي تضع وليدها الثاني، ولم يتزوج شهير بعدها، ومن يومها وعادل يعيش معي. احتضنت نبيلة الطفل وقبلته في حنان، وأردفت العمة قائلة: شهير تعب من الغربة، وقرر نقل أعماله إلى مصر، وسيعود قريبا ويستقر هنا، ويرغب في الزواج من بنات بلده، فلم يكن سعيدا مع زوجته الأجنبية، وقد كان هذا رأيي منذ البداية، فما رأيك أنت؟ ــ رأيي أنا! في ماذا يا عمتي؟ ــ في زواجك من شهير. ــ لكن شهير لم يرني منذ سنوات، وربما لو رآني الآن لا أروق له, وربما يريد فتاة صغيرة؛ كي تنجب له الأطفال. ــ بالنسبة للأطفال: ها هو ذا عادل، لن يجد له أما أفضل منك، ومن يدري ربما يهبك الله طفلا. أنت لم تصلي بعد لسن اليأس، ولقد تحدثت مع شهير في أمر زواجه بك فرحب، فكلاكما يليق بالآخر، وهو الآن ينتظر ردك على طلبه، فماذا ترين؟ ــ شهير رجل محترم ولا عيب فيه.
ــ لقد كنت ابنة بارة بوالديها، ولذا سوف يعوضك الله خيرا. شعرت نبيلة بدبيب الحياة في جسدها، وغاب شبح الوحدة عن عينيها، وتهللت أساريرها وهي تجيب في حياء، الرأي رأيك يا عمتي!
|
|